الدرس الثامن من قواعد البلاغة الواضحة
خروج الكلام عن مقتضى الظاهر
يقسم البلاغيون الخبر إلى ثلاثة أضرب، وذلك على أساس علاقة الخبر بظاهرة التوكيد، وهذه الأضرب هي :
أولاً : الخبر الابتدائي : وهو الخبر الذي يُلقى إلى مخاطبٍ خالي الذهن، حيث يكون هذا الخبر خالياً من المؤكدات
ثانياً : الخبر الطلبي : وهو الخبر الذي يُلقى إلى مخاطبٍ مترددٍ في قوله، ولذا فإن المُلقي للخبر يؤكده بمؤكدٍ واحد
ثالثاً : الخبر الإنكاري : وهو الخبر الذي ينكره المُخاطَبُ إنكاراً يحتاج المُلقي للخبر أن يؤكده بأكثر من مؤكد،
وهذا سبق الكلام عليه
ويطلق البلاغيون على مطابقة الأسلوب الخبري لتلك الأحول السابقة : مراعاة مقتضى الظاهر.. أي لظاهر حال المُخاطَب..
إلا أن هناك اعتبارات تقتضي تخريج الكلام على خلاف مقتضى ظاهر الحال
ومن هذا الخروج على مقتضى الظاهر :
أولاً : تنزيل العالم ـ بفائدة الخبر، أو لازمها، أو بهما معاً ـ منزلة الجاهلِ بذلك، لعدم جريه على موجب علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل به، كقولك لمن يعلم وجوب الصلاة، وهو لا يصلي : ( الصلاة واجبة ) توبيخاً له على عدم عمله بمقتضى علمه
ثانياً : تنزيل من هو خالي الذهن منزلة السائل المتردد، وذلك إذا كان في سياق الكلام ما يثير ترقبه وتشوّقه للخبر، كقوله تعالى (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)، فإنه لمّا قال ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ) بعد قوله تعالى ( وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا )، صار المقام مقام تلهّفٍ وترقب لمصير هؤلاء الظالمين، ولذا ورد الإخبار بهذا المصير مؤكداً
ثالثاً : تنزيل المنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن إنكاره لا قيمة له ولا اعتداد به، كقوله تعالى ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ).
فالخبر هنا جاء غير مؤكد، مع أن الكفار والمعرضين يرتابون في هذا الخبر وينكرونه، وذلك لأن إنكار القرآن هو إنكار الحقيقية الواضحة البيّنة الجلّية، وهو ضربٌ من الوهم والمكابرة والمعاندة، فلم يلتفت القرآن العظيم لهذا الإنكار، فساق الخبر من غير توكيد
رابعاً : تنزيل غير المنُكر منزلة المنكر: إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، كقول حَجَل بن نضلَة القيسي ( من أولاد عَمّ شقيق ) :
جاء شَقيقٌ عارضاً رُمَحهُ...... إنَّ بني عَمك فيهم رماحُ
فشقيقٌ رَجلٌ لا يُنكر رماحَ بني عمّه، ولكن مجيئه على صورة المعجب بشجاعته، واضعاً رُمحَه على فخذيه بالعرض وهو راكب أو حَاملاً له عرضاً على كتفه في جهة العدُو بدون اكتراثه به، بمنزلة انكاره أنَّ لبني عمّه رماحاً، ولن يجد منهم مُقاوماً له كأنهم كلهم في نظره عُزلٌ، ليس مع أحد منهم رمحٌ. فأكَد له الكلامُ استهزاء به، وخُوطبَ خطاب التفات بعد غيبةٍ تهكما به، ورمياً له بالنزق وخرق الرَّأي
خامساً : تنزيل المتردد منزلة الخالي، كقولك للمُتردد في قدوم مسافر مع شهرته ( قدم الأمير ).
سادساً : تنزيل المتُردد منزلة المنكر، كقولك للسائل المستبعد لحصول الفرج ( إنَّ الفرج لقريب ).
سابعاً : تنزيل المنكر منزلة الخالي، إذا كان لديه دلائل وشواهد لو تأملها لارتدع وزال إنكاره، كقوله تعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ )
ثامناً : تنزيل المنكر منزلة المُتردد، كقولك لمن ينكر ( شرف الأدب ) إنكاراً ضعيفاً ( إن الجاه بالمال: انما يصحبك ما صحبك المال وامَّا الجاه بالأدب فأنه غير زائل عنك )
ويسمى هذا خروج الكلام عن مقتضى الظاهر
والله الموفق
0 التعليقات:
إرسال تعليق